بروفسير منال الشربيني و تحليل لدلالات العشق والغواية لرواية مآساة ابليس لمحي حافظ
إليزابيث سلاح إبليس
دراسة تحليلية لدلالات الغواية والعشق في نص رواية إبليس لمحي حافظ وتجلياتها في التراث الديني والأدبي
إعداد د منال الشربيني 🇪🇬
وجدتني، كالعادة، أعيد كتابة نص محي حافظ على طريقتي الخاصة جدًا، فوقفت كثيرًا عند قوله:
تَعَجَّبَت الحيَّة الذهبية وقالت لإبليس
سأفعل ما قلت يا مليكي
و لكن أَنَسِيت من أكون
أنا حفيدة " سوميا " ملك الجن الأول
الذي قال له الرب حين خلقه تمنَّ عليّ
فتمني "سوميا" علي رب الملكوت
أن نَرى و لا يرانا فاستجاب الرب
حيث تذهب دلالة الحية الذهبية إلى الإغواء والفتنة (كما في قصة آدم وحواء)، ولكن جاء وصفه الحيَّة بـ "الذهبية" لكي يضفي بعدًا آخر؛ قوة، أو حكمة، أو مكانة خاصة في عالم الجن. وجاء لفظة " تعجبت" لتخبرنا، لغةَ. أن طاعتها له تقع تحت طائلة سقف محدد لا ينبغي لها أن تتعداه، إذا ما تعلق الأمر بأمر إطاعته بينما يرمز" سوميا" ملك الجن الأول إلى شخصية محورية، منحه الرب مكانة عليا في عالم الجن، مما يدلل على عراقة سلالة الحَيَّة، وجاءت دلالة التمنى لتعكس طلب القدرة على الرؤية دون أن يُرى، تلك الخاصية التي تمكِّن الجن من حبك سبل الغواية للإنسان من حيث لا يعلم.
مقارنة بالقصص الديني في كلٍّ من (الإسلام والمسيحية واليهودية)، غالبًا ما جاء الكلام عن عالم الجن والشياطين بوصفهم كائنات خفية قادرة على التأثير على الإنسان؛ غوايته و دفعه لفعل الشرور والموبقات دومًا، ولكن، هنا يبرز سؤال مهم: " كيف يحاسبنا الله على فعل كلما هممت به، لكزني الشيطان، ودفعني إلى طريق الغواية والمعصية؟" وإذا ماكان كل فعلٍ مني معلق بقسم الشيطان" وعزتك وجلالك لأقعدن منهم كل مقعد" لأغوينهم أجمعين"، وكيف أجد إرادتي الحرة مع هذا القسم بعزة الله وجلاله؟ وكيف لي أن أجاهد عدوًا خفيًا بأساليب مرئية له؟ حيث خططي كلها ضده مشاع هو كاشفه، وكيف لي أن أنجو؟ وهل يحاسبني الله على فعل أردته، وانحرف عن مساره لأن قوىً خفية كان له، بالمرصاد، إرادة مغايرة؟
في أدب الفانتازيا والأساطير، نقرأ أو نشاهد العديد من الأعمال الأدبية تصور عوالم خفية؛ كائنات سحرية مثل الجن والجنيات التي تمتلك قدرات خاصة، بما في ذلك الاختفاء والتأثير الخفي، كما هو الحال في عالم سلسلة "هاري بوتر" (Harry Potter) (Rowling, 1997-2007) التي تتضمن مخلوقات سحرية ذات قدرات مختلفة، بعضها قادر على الاختفاء أو التأثير بطرق غير مرئية، و في حكايات "ألف ليلة وليلة" من حكايا عن الجن والعفاريت بقدرات خارقة تفوق خيال ومقدرة العالم الإنسي، وفي بعض نصوص الشعر الصوفي والأدب الرمزي، حيث، تُمثل الكائنات الخفية قوى داخلية أو تأثيرات غير مرئية على النفس البشرية. وعليه، فإن الحية الذهبية هنا هي معادل موضوعي للجانب الخفي، أو قوة الغواية.
ويقول حافظ:
وأنتِ سلاحي أميرتي
أنتِ من عشقتُ أنفاسها قبل أن أراها إليزابيت
هنا، يبرر إبليس موقفه من سلاحه الأقوى/ الحية الذهبية، ووجوده الخفي، وقدرته على تحويل الأبيض إلى أسود، وتغييب الحق عمدًا، و غواية الإنسان قصدًا، وكيف أنه قطع على نفسه عهدًا أمام الله أن يغوي بني آدم بكل ما أوتي من قوة لكي يثبت له أنهم لا يستحقون التكريم، وأن اعتراضه ومعصيته ورفضه السجود لآدم كان عن بينة.
"وأنت سلاحي أميرتي أنتي من عشقت أنفاسها قبل أن أراها إليزابيت"، هنا أتوقف قليلًا، أو طويلًا عند قوله "عشقت انفاسها قبل أن أراها.. إليزابيت"، ترى! ما هي طبيعة هذا العشق، هل هو روحي، فكري، هل التقى بها أيضًا في عالم العدم؟ ربما، فهو يناديها باسمها: اليزابيث!"
مقارنة بقصص القرآن الكريم، في هذا الصدد، ورد ذكر قصة خلق آدم وحواء وإغواء الشيطان لهما، فاختار آدم وحواء بمحض إرادتهما الأكل من الشجرة المحرمة، بغض النظر عن دلالتها، أهي بالفعل شجرة، أم نظرة إلى الممنوع، أم دخول إلى منطقة محرمة، المهم أنهما قررا معًا تجريب الأمر، فوقعَا في المحظور، وكان هذا ناتج عن كامل إرادتهما بدافع الفضول، ربما، أو من باب " ولِمْ لا؟"، وكذلك ورد ذكر الهبوط والمعصية في " الكتاب المقدس٠ العهد القديم) الكتاب المقدس (العهد القديم): يروي سفر التكوين قصة مماثلة عن آدم وحواء و الشجرة المحرمة وإغواء الحية (الشيطان) لهما، ونتيجته الطرد من جنة عدن. هناك تركيز على العصيان وعواقبه.
ومقارنة مع صور المرأة الملهمة/المدمرة في الأدب، تتماس النجمة الذهبية في دلالاتها مع "بياتريس" في الكوميديا الإلهية لدانتي أليغييري، والتي فيها تمثل " بياتريس" الحب الروحي والإلهام الذي يقود دانتي في رحلته. على النقيض، يمكن أن تُمثل المرأة في سياقات أخرى سببًا للسقوط أو الإغواء، وهي تمثل شخصية المرأة الفاتنة (Femme Fatale) في الأدب، إذ غالبًا ما تُصور هذه الشخصية كامرأة جذابة لكنها خطيرة وتؤدي إلى هلاك الرجل.
اختلفت دلالات "الخطيئة الأولى" في الكتب المقدسة، فبينما تفسر اليهودية والمسيحية (العهد القديم) الخطيئة الأولى بشكل أساسي على أنها عصيان، أمر الله بعدم الأكل من شجرة معرفة الخير والشر (سفر التكوين 3)، مما ترتَّبَ عليه جلب الموت والفساد إلى العالم وفصل الإنسان عن الله، وهنا يضيف (العهد الجديد) مفهوم الخطيئة الأصلية الموروثة من آدم إلى جميع البشر. في الوقت نفسه، يُنظر إلى معمودية الأطفال كطريقة للتطهير من هذه الخطيئة الموروثة، أما الإسلام، ففيه أن آدم ارتكب خطيئة (زلّة) ولكنه تاب إلى الله فتاب عليه (سورة البقرة). لا يوجد مفهوم الخطيئة الأصلية الموروثة بنفس الطريقة كما في المسيحية، أي أن كل فرد مسؤول عن أفعاله.
تاريخًا، تطور تفسير "الخطيئة الأولى" عبر التاريخ و تأثر بالفلسفة واللاهوت والثقافة، ولقد رأى بعض المفكرين أن قصة السقوط تحمل رموزًا أعمق حول طبيعة الإنسان، و شعوره بالفضول، وربنا التطفل، ونوعه إلى تجريب الغريب من الأمور، وخوض المغامرات واكتشاف المجهول واكتساب الوعي، والانفصال عن حالة الفطرة، أما على صعيد الاجتماع السياسي، يحمل مفهوم الخطيئة الأصلية في بعض الأحيان تبرير أفعال أهل السلطة، أو تفعيل النظرة السلبية للطبيعة البشرية.
ولكن، ماذا يقصد الكاتب باسم "إليزابيث" هنا؟ " هل هي شخصية حقيقية؟"، ربما، إذ قد تكون "إليزابيث" اسم امرأة حقيقية لعبت دورًا هامًا في حياة الكاتب، سواء كانت حبيبة، ملهمة، أو شخصية ذات تأثير قوي. "هل هي رمزية لإسقاطً ما؟"، ربما، إذ قد يرمز اسم "إليزابيث" إلى فكرة مجردة، مثل الحرية، الجمال، القوة، أو حتى جانب مظلم من شخصية الكاتب.
ويقول:
و في النهاية سيأتي المختار والمنظرين
ولقد اقترب موعدهم الثاني..
ولكنه يخلص إلى نهاية حتمية للكل، لا ينكرها الشيطان نفسه، تقول الحية: "و في النهاية سيأتي المختار والمنظرين"، ربما يعني الربط بين "المختار" و "المنظرين" تحالفًا بين شخصية قيادية أو مُلهمة ومجموعة من الأشخاص الذين يمتلكون رؤية أو سلطة زمنية أو قدرة ما على تأجيل النهاية..
"ولقد اقترب موعدهم الثاني": يؤكد هذا الشطر على قرب وقوع هذا الحدث المنتظر، ويشير إلى أن هناك "موعدًا أولًا" قد سبق هذا، مما يضفي نوعًا من التعقيد والتاريخية إلى السياق العام للكلام. يزيد اقتراب زمن الموعد الثاني من وتيرة الإلحاح والترقب، لكن الكاتب لم يحدثنا من قبل عن الموعد الأول، فهل لنا أن نطالب بفصل عن الموعد الأول؟!
يحاول النص دلالات "المختار" دينيًا كشخصية مُنتقاة للخلاص وأدبيًا كبطل ذي قدرات خاصة، بينما يوضح أن "المُنْظَرين" هم، كما يبين القرآن الكريم، الشياطين المؤجل هلاكهم (سورة الأعراف 14-15؛ سورة الحجر 36-38؛ سورة ص 79-81)، كما يرتبط لغويًا ودينيًا بمفهوم "المخلِّص" في نهاية الزمان. ويختتم النص بأن كلًّا من "المختار" و"المُنْظًرين" يمثلان على الأرجح قوى متصارعة تأتي لاحقًا لتحقيق مصير نهائي.
ويقول أيضًا:
كيف سقطت من السماء
يا نجمة الصبح الزاهرة
كيف هويتِ إلى الأرض
يا من قهرت الأمم كلها
كنت تقول في قلبك
سأصعد إلى أعالي السماء
و أجلس على عرش الإله
"كيف سقطت من السماء يا نجمة الصبح الزاهرة كيف هويتِ إلى الأرض يا من قهرت الأمم كلها؟!"
تبدأ الأبيات بسؤال استنكاري عن سقوط كيان عظيم، أوضحه هذا التباين العظيم بين لفظتي " النجمة" وسقطتِ"
"كنت تقول في قلبك أصعد إلى أعالي السماء و أجلس علي عرش الإله©" وهنا يتجلى قمة الطموح إلى تحقيق اللامعقول الذي أعقبه، ونتج عنه هذا السقوط السافر. يحيل النص إلى دلالات "نجمة الصبح الزاهرة" و"عرش الإله"، حيث يمثل الأول ملك بابل الساقط ويسوع المسيح في الكتاب المقدس، ويرتبط في التراث المسيحي بلوسيفر الساقط، بينما يرمز الثاني للسلطة الإلهية المطلقة. وتنعكس قصة الطموح المفرط والسقوط في أسطورة لوسيفر (الكتاب المقدس، سفر إشعياء 14: 12)، وملحمة "الفردوس المفقود" لميلتون (Milton, 1667)، وأسطورة إيكاروس الإغريقية (الأساطير الإغريقية)، مما يبرز رمزية الكبرياء وعواقبه في مختلف الثقافات.
ويقول:
قالت الحيَّة
ولكن كلنا زائلون والموت مصيرنا
قالتها بحزن يبدو للجميع حقيقيا
يا له من قول عميق يحمل بين طياته حكمة الوجود!
في حوار مفارق، تعي الحية حقيقة الفناء والموت المصير المشترك، وهو وعي يضفي عليه الشاعر طابعًا إنسانيًا عميقًا يعكس الألم المصاحب لهذه الحقيقة الوجودية. ويتجلى هذا الوعي في نصوص أدبية وفلسفية متنوعة عبر التاريخ، من شعر الرثاء العربي إلى الفلسفة الوجودية كما عند هايدغر، وتأملات شكسبير، بينما تقدم الأديان رؤًى مختلفة للموت كانتقال أو عودة للخالق، وقد شكل هذا الوعي بالموت جزءًا أساسيًا من الثقافة الإنسانية عبر التاريخ.
ويقول حافظ:
وقالت وهل المتوفون لا ينعمون
بنعيم الجنه ومتعها وعبادة الرب و خيراتها؟
يتساءل قول الحية باستنكار عن إمكانية حرمان المتوفين من النعيم المقيم في عالم الحياة بعد الموت، وهو ما يثير فلسفيًا مسألة استمرار الوعي بعد الموت. ووجوديًا، يعكس هذا التساؤل بحث الإنسان عن معنى الوجود في مواجهة الفناء، وهو معنى يتردد في القرآن الكريم الذي يصف نعيم الجنة (البروج: 11)، وأشعار المتصوفة كما عند الرومي، والشعر الجاهلي، والأدب الحديث كما في "الغريب" لكامو (1942).
ينهي حافظ رسالته في الفصل التاسع بقوله: على لسان إبليس:
ولكن احذروا فالدائرة والمتاهة
لم تبدأ بعد
فالقدر له حساباته
و التيه أراكم فيه الآن
مخلصكم
إبليس
هذه قراءة الكاتب لرواية بديلة لـ سقوط آدم وحواء من منظور إبليس "المخلص"، مقارنًا إياه بـ "الفردوس المفقود" لميلتون، و"يا طالع الشجرة" للحكيم، والنصوص الغنوصية، وفلسفة نيتشه، ويقترح فهم النص عبر نظريات التحليل النفسي لفرويد، وما بعد البنيوية لفوكو، والتلقي لياوس، لفحص دوافع الشخصيات وتأثير النص على القارئ (ميلتون، 1667؛ الحكيم، 1966؛ نصوص غنوصية؛ نيتشه؛ فرويد، فوكو، ياوس...
تلك بعض قراءتي للفصل التاسع من "مأساة إبليس"، ولربما وجد بحَّاثة آخرون نقاط أخرى تتفق أو تختلف معي أو مع النصوص، ولكن، يجب أن أسجل هنا، أننا جميعًا، نمتلك من علامات الترقيم، كلها، إلا النقطة (.)، فلله. دومًا، القول الفصل؛ إن هؤلاء إلا اجتهادات نحاول فيها تفعيل أوامر الله لنا أن
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [سورة الحج 46]
....
المصادر:
الكتاب المقدس (العهد الجديد، رؤيا يوحنا).
الأحاديث النبوية الشريفة (يُشار إلى الكتب والأبواب والأحاديث عند الاقتباس).
ملحمة "حرب النجوم" (Star Wars): لوك سكاي ووكر هو "المختار" لمواجهة الإمبراطورية الشريرة.
Tolkien, J. R. R. (1954-1955). The lord of the rings. George Allen & Unwin.
( Milton, J. (1667). Paradise lost.
الكتاب المقدس (سفر إشعياء 14، سفر الرؤيا 12). (تفسيرات آباء الكنيسة مثل أوغسطين وغيره تعتبر مصادر ثانوية مهمة)
Shakespeare, W. (n.d.). Macbeth.
الكتاب المقدس (سفر إشعياء، سفر الرؤيا).
Milton, J. (1667). Paradise lost.
الكتاب المقدس (الإشارة إلى سفر التكوين).
ميلتون، جون. (1667). الفردوس المفقود.
الحكيم، توفيق. (1966). يا طالع الشجرة. مكتبة مصر.
نيتشه، فريدريك. هكذا تكلم زرادشت.
فوكو، ميشيل. المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن.
ياوس، هانز روبرت. تاريخ الأدب كتحدي لنظرية الأدب.
تعليقات
إرسال تعليق